في ذكرى 12-12 / الوزير السابق محمد فال ولد بلّال
وصل الرئيس معاوية، حفظه الله و رعاه، إلى الحكم نهاية 1984، وهو ضابط برتبة عقيد في الجيش منطوي على نفسه و مطلع و عصري و حداثي و صارم و واثق من نفسه. في 43 من العمر ضليع في القراءة و مثقف و واع و مراقب نبيه للساحة الفكرية والسياسية. لم تباغته السلطة بعد أن خاض تجربة كل اللجان العسكرية السابقة و تولى وزارات عديدة و الوزارة الأولى.
أول ما بدأ به هو ترسيخ أركان حكمه. فظهر على الملأ رئيسا تقدميا ينتقد “لقْبَيْلاتْ” (القبائل كما سماها في النعمة) و يدعو إلى الديمقراطية والمساواة و محو الأمية و تحرير بالمرأة و استنهاض همة الشباب. يخاطب الشعب باللغة العربية لأول مرة في تاريخ البلد رغم مستواه المتواضع في الخِطابة و الالقاء، و ما إن دخل عامه الثاني في الحكم حتى بدأ يترجم أقواله إلى أفعال.
أطلق مسلسلا انتخابيا لغرض تهيئة المجتمع و الإدارة لتقبل و ممارسة الانتخابات كخطوة تمهيدية و مدخل سلس للتعددية السياسية لاحقا. و معه بدأ الموريتانيون رحلة التنافس و الحملات و الخيام و بطاقات التصويت و المحاضر و احتساب النتائج في كنف الأمن و السلم و الاستقرار، و كان ذلك في العام 1986 أي 5 سنوات قبل خطاب الرئيس الفرنسي “ميتران” في مؤتمر “لابول”.
إن الرئيس معاوية كان يخطط لبناء صرح الديمقراطية في البلاد بالتدرج، لبنة بعد لبنة، و خطوة بعد خطوة، و إنجازًا بعد إنجاز.
و هل كان بوسعه أو بوسع غيره “إنزال” ديمقراطية مكتملة الأركان و الصفات وخالية من العيوب دفعة واحدة؟ و في الوقت ذاته، بدأ إشراك المرأة و الفئات و الشرائح المهمشة في إدارة الشأن العام في إطار مسعى جادا “لدَمَقْرَطَة” المجتمع.
و بموازاة ذلك كله، بدأ تنفيذ مشروعات كبرى مثل كهربة المدن (عواصم المقاطعات)، و بناء الطرقات: طريق تجگجة مثلا ، و بعدها طريق انواذيبو، وافتتاح ميناء الصداقة في نواكشوط (1986) و تطوير الزراعة المروية، إلخ ..
واستمرّ هكذا على درب “التقدميّة” و “العروبيّة” حتى ترجم رؤيته للبلد و مبادئه في دستور (20-7-1990) معلنا نهاية الوضع الاستثنائي القائم منذ 10-7-1978.. دستور يقضي بالدين الإسلامي دين الدولة و الشعب، واللغة العربية لغة رسمية، و البولارية والصونيكية والولفية لغات وطنية، ويكرس التعددية الحزبية، و يضمن الحريات، إلخ..
وهنا – 1990 – ذهبت الطبقة السياسية في اتجاهين: اتجاه موالي للمسار الذي دشّنه الرئيس، واتجاه معارض. انطلقت الموالاة من رؤية التدرج والتمهل والسير بالديمقراطية على مراحل، خطوة خطوة. وتعاملت مع بداية المسار بابراغماتية و واقعية.. باعتبار أنّ البدايات – في أي مجال من المجالات – تكون دائما صعبة والناس فيها معرضون للأخطاء والهفوات لا محالة. حال الديمقراطية في ذلك هو حال السباحة أو المشي وغير ذلك مما يكتسب.. هل يمكنُ مثلا تعلمُ السباحة دون استنشاق أو بلل؟ وهل يمكنُ المشيُ دون حبْو أو تمايل أو تهادي؟ وهل يمكن الوصول إلى ديمقراطية ناضجة وخالية من الشوائب دون أخطاء وعثرات، كحل حزب هنا بموجب قانون الأحزاب أو مصادرة عدد من صحيفة هناك؟
وفي الجهة الأخرى، اصطفت أطراف كبيرة من الطبقة السياسية معارضة لهذا التوجه. ووقفت ضد تنظيم الاستفتاء ورفعت شعار المقاطعة وطالبت ب”شوارع خالية” و “مدن ميتة” يوم ال20 من يوليو 1991. ودعت لعقد “مؤتمر وطني كامل الاستقلالية والسيادة”، وهي وصفة رائجة آنذاك ومعمول بها في الدول الأفريقية،، وتعني نزع الثقة والصلاحيات من الحكومات القائمة وتنظيم مسلسل انتخابي تحت إشراف “مؤتمر وطني أساسه المجتمع المدني قيد الإنشاء”.
قاطعت المعارضة الاستفتاء لتعود بعد ذلك وتشارك في الانتخابات الرئاسية. جرت الحملة دون مشاكل تذكر، وانتهى الاقتراع بسلام وهدوء، و أعلنت النتائج.. فاز مرشح النظام ب 62,65% مقابل 32,75% لمرشح المعارضة، و كأننا في عالم غير العالم العربي وقارة غير القارة الأفريقية لأن مثل هذه النتائج في العالمين العربي والافريقي (وفي ذلك التاريخ) أمر مستحيل.
رفضت المعارضة النتائج بسبب ما قالت إنه تزوير وحشو للصناديق. ولم تعترف برئاسة الرئيس المنتخب ولا بشرعيته.. وقررت مقاطعة الانتخابات البرلمانية الموالية، وعاد الوضع إلى ما كان عليه من اضطرابات وأزمات .
سادت لغة التخوين والتصعيد والقطيعة والقمع والتشويه، وعادت الساحة إلى دوامة الصراع الصفري أو العدمي بين حزبين، هما حزب النظام وحزب معارضة النظام، حزبان يتقاسمان منطق الحزب الواحد.. حزب النظام يعتبر المعارضة شرا يجب إزالتُه وحزب المعارضة يعتبر النظام داءً يجب استئصالُه. واستمرت المجابهة والاقتتال السياسي إلى انقلاب 2005.
– من أرشيف الصفحة.